مقالات

حداثة ضد الله.. الإلحاد المتهافت

محمود حيدر

(تحت هذا العنوان “حداثة ضد الله” يقارب المفكر اللبناني محمود حيدر ضمن حلقتين قضية الإلحاد في الفكر الغربي، حيث يتاخم جذورها الفلسفية والسوسيولوجية والتاريخية، ويبيِّن آثارها وتداعياتها الثقافية والأخلاقية على مآلات الحداثة الفائضة في العالم الغربي).

ما كان من عبارة أبلغ من توصيف مآلات التنوير في الغرب بأنها حداثة ضد الله.. ربما لم يكن للذين ذهبوا الى مثل هذه الخاتمة ان يقولوا هذا، لولا أن آل جموح العلمنة حدَّ صدِّ الغرب عن إيمانه بعد فصله عن لاهوته. كانت الظاهرة الإلحادية من أبرز البيِّنات على تهافت العلمنة وهي تخوض معاركها الفاصلة مع الإيمان الديني تطبيقاً لشعارها الأثير: “إزالة السحر عن العالم”… فلو كان لنا أن نؤرخ للإلحاد المستحدث لوجدنا في هذه البيِّنة مستهل الرواية. فالإلحاد ما صار ظاهرة غربية إلا مع حداثة حرصت على نزع الإيمان حتى يتسنى لها الاستحواذ على دنيا الإنسان بلا أدنى منازعة.

وسواء قرأنا الإلحاد كمنزع تفكيري، أو كموقف من حدثٍ قَلَبَ تاريخَ الغرب الحديث رأساً على عقب سينتهي بنا المسعى الى منطقة رمادية مكتظة بالمقاربات والمفارقات في الحالين إياهما لم نشهد على موجبٍ منطقي يصوب مرمى الظاهرة أو يسوغ مدّعاها. حتى لقد بدا لنا في حمى الجدل حول ماهية الإلحاد وهويته، أن الاستقراء الأكثر قرباً الى الفهم هو السلب والإعراض. أي الملحد تعريفاً هو ذاك الذي يُعرِضُ عما ليس تحت سطوة الحواس. أو – بحسب المصطلح الهايدغري – عما لا يكون طوع اليد (Zuhandheit). ففي معرض احتجاجه على نقص الميتافيزيقا بصيغتيها اليونانية والحديثة سيستعيد هايدغر أصل الإشكال في فلسفة الموجود. داعياً الى التحرر من كثافة الموجودات وعروضها سعياً باتجاه التعرف على لطف الوجود وأصالته. إذ عند هذا الانعطاف لا تعود العلاقة الأولية للكائن الإنساني مع أشياء العالم المرئية والمحسوسة علاقة استعمالية انتفاعية. وهي نفسها العلاقة التي أفضت الى أن يركن الملحد من أول أمره إلى تلك الجملة الاعتراضية: لا أؤمن بما يؤمن به المؤمن بالله الواحد الأحد.

نمضي الى هذا المستخلص من فرضيتين: إحداها ترى الى الإلحاد كحدثٍ تاريخي ألقى بآثاره على الإنسان فانفعل بها واستجاب لدواعيها، وأخرى نظرت إليه كفكرة استعصى على الناظر تفكيك لغزها فهوى في لجة اللاَّيقين، ثم لم يكن له جراء هذا إلا أن يدحض إيمان المؤمن طلباً ليقين ما. ربما لهذا السبب سينبري الفيزيائي واللاهوتي المسيحي أليستر ماكغراث (Alister Mcgrath) الى عقد صلة سببية بين الإلحاد والإيمان؛ ليبيِّن أن الاول (الإلحاد) ما كان لصورته ان تظهر على الملأ لولا إنكاره الوجود الواقعي للإيمان. بهذه المنزلة تصير المقولة الإلحادية رؤية ذات طابع إيذائي؛ تُنكر على المؤمن إيمانه بوجود صانع ومدبِّر للكون، وتزعم إمكان الفهم التام للعالم والسيطرة عليه. ومن المفارقات التي لا تخلو من إفراط، ان الذين يلحدون(بدراية أو من دونها) كثيراً ما يخلعون على إلحادهم رداء العقلانية. وما يفعلون هذا إلا لظنٍ منهم بقدرة “العقل العلمي” على الكشف عن أعمق حقائق الكون والتعبير عنها، من آلية شروق الشمس الى منشأ الطبيعة البشرية ومصيرها النهائي.

ديالكتيك متناقض: الإيمان والإلحاد

بين الإلحاد والإيمان ضدِّية وجودية إلا أنهما لا يتعادلان في لقيمة والاعتبار. التمايز بينهما جوهري. فإذا كان الإيمان موجبٌ ويكتسب أصالته من تعلقه بواجب الوجود، فالإلحاد سالبٌ ومنحكمٌ الى النقص لتعلقه بعالم الإمكان والفقر وإنكار الواجب. وإذاً، فلا نسبة وجودية للإلحاد إلا بصفة كونه نفياً للإيمان. اللاّإيمان (Atheism) مقابل الإيمان (Theism). لا يقبل الملحد وبكل بساطة بالمعتقدات الأساسية للإيمان بوجود الله. وعليه لا يكون الشخص ملحداً إلا متى اعرض عن تلك المعتقدات ورفضها. بهذا التأصيل لا يكون للإلحاد بياناً وحضوراً إلا كنفيٍ لما هو موجود بالفعل.. وهو الإيمان بحقيقة الوجود. فالملحد هو الذي ينفي بالقوة ما يعتقد به المؤمن بالفعل. فإذا كان المؤمن محصَّناً بقوة انجذاب نحو الوجود المتعالي من أجل ان يُحصِّل القربى إليه ما استطاع الى ذلك سبيلاً، فمنكر الإيمان مصدودٌ بقوة انجذابية معاكسة. قوة الجذب لديه سالبة، خاوية، وممتنعة عن الامتلاء بالوجود. وبهذا يصير الخواء سَمْتُ الملحدِ ومبعثُ قلقهِ وتوتره وتشاؤمه الوجودي. قد يقال ان الملحد مطمئن لإلحاده، وان هذه الطمأنينة هي عنده يقين، إلا أنه يقين مبتور لا يلبث صاحبه حتى يسائل نفسه عن قيمة وجوده ما دام هذا الوجود آيل الى اللاَّشيء الى السديم.

ولسوف يتمدد التساؤل عند المؤمن طلباً لمضاعفة يقينه، أما لدى الملحد فكل سؤال لا يقع موضوعه في مرمى العين يتبدد ويصير حطاماً. وفي حين يتغيّأ المؤمنُ التعرُّفَ الى الحقيقة المتعالية الراعية للمخلوقات طلباً للخلاص الأبدي، لا يجد الملحد في إلحاده ما يمكنه من بلوغ غاية تتجاوز آفاق الطبيعة المرئية المنتهية الى الموت والفناء. وبالتبع المنطقي يتعذر أن يكون ثمة من معنى وقيمة لدى الملحد ما دام نفيُه للألوهية منتهٍ الى عدم. من الأقدمين والمحدثين من آنَسَ الى سؤال الشك على أمل ملئه بجواب ما مثلما فعل اللاّأدريون؛ إلا أن الذين ألحدوا وانصرفوا الى التبشير بإلحادهم لم يفلحوا إلا ضمن الحيِّز الذي خلا من المؤمنين. وهو الحيِّز الذي توفر لهم مع تمدد العلمنة وسريانها العميق في عقله وروحه.

كل ما جاء به الإلحاد الغربي من محاجَّات، فإنما من تضخم الذات التي أسلمت نفسها لحداثة، دارت جلُّ أسئلتها مدار الطبيعانية الصمّاء. ولسوف يجد مثل هذا التضخم حقله الخصيب عند منعطفات الإنزياح التام الى العقل الخالص والعلم المكتفي بذاته. ها هنا سنشهد على الإلحاد كحادث تاريخي تمثّل بـ: العلموية والهيمنة.. وهما الفرضيتان اللتان لاَزَمتا حركة الحداثة الغربية سحابة سبعة قرون متصلة، ولا تزالان تستحكمان بمقالتها الفلسفية ومسلكها الحضاري الى يومنا هذا:

– فَرضَية العَلْموية، التي ترى أن العلم والتفكير العلمي قادران لوحدهما أن يحدِّدا كل ما علينا أن نتقبله على أنه حقيقي. فرضية تقرر أن كل شيء يجب أن يخضع لقوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، او أي فرع آخر من فروع العلم، أما الروحانيات وحتى الشعور بالجمال والحدس والعاطفة والأخلاقيات فقد اختزلتها النظرة العقلانية الى مجرد متغيرات في كيمياء الدماغ تتفاعل مع مجموعة من القوانين الميكرو – بيولوجية المرتبطة بتطوّر الإنسان.

– أما فرضية الهيمنة والاستحواذ فتلك التي تقرر ان الهدف من العلم – حسب فرانسيس بيكون – هو التحكم بالعالم الخارجي واستغلال الطبيعة، والسعي الحثيث الى جلب المنافع أنَّى وجدت…

لقد كان التأثير الباهر للثورة الكوبرنيكية جلياً على مجالي العلم والفلسفة، إلا أن هذا التأثير سينتهي  الى حدٌّ وجد فيه الغرب  نفسه كما لو يقطن في كون بارد لا هدف له ولا غاية، وأن الوجود الانساني فيه ليس إلا ظاهرة عارضة للمادة نتجت عن مصادفة كونية، لا عن وجودٍ ينتظمه تقديرٌ إلهي. من أجل ذلك سيكشف مسار الحداثة الفائضة عن خراب مبين في اليقين الجمعي ناشئ مما سمي بـ “هيكل الشرك الحديث”. وهذا هو في الواقع، ما تستجليه عقيدة الفرد وشخصانيته المطلقة. فالشكل العبادي للشرك الحديث – كما ألمح عالم الاجتماع الألماني دوركهايم – ليس الوثنية بل النرجسية البشرية، لما بلغ تضخم الذات لديها منزلة الذروة في زمن العلمنة المطلقة، حتى أن أمست عبادة الفرد دين الحداثة الفائضة وديدنها.

لقد أفضت عقيدة الفرد أو ما سمي بـ فلسفة “تأليه الإنسان” الى انتاج ضربٍ من الإلحاد المركب: إلحاد بالإيمان كإيمان تتوق إليه الأفراد والجماعات على نشأة الفطرة، وإلحاد بالمؤسسة اللاهوتية وبدورها في رعاية الجماعة المؤمنة. أما التأسيس الفلسفي لحضارة الفرد فقد جرى مجرى الحداثة بأطوارها المتعاقبة. ولنا أن نتأمل – على سبيل التمثيل لا الحصر –من شهادات بعض نظّار الحداثة: “ان دين الإنسان لا يعرف الهياكل والمذابح والطقوس”(روسو)..، “أنا بحد ذاتي فرقة دينية”(توماس جيفرسون) “فكري هو كنيستي”(توماس باين).. وهذه الشهادات على الجملة ليست سوى تعبيرات عن الشكل الحديث لما اصطلح على تسميته بـ “التديُّن الفردي”. من هذا النحو وغيره أيضاً من أنحاء، تشكلت معالم الأطروحة الإلحادية في تفكير الغرب الحديث. أما ففي التغطية على كل ما يتوارى خلف فيزياء الحواس الخمس. حتى علم النفس الذي أنتجته “الحداثة العلموية”، وبلغ مع الفرويدية ذروته، لم يفعل سوى ان ضاعف من تشيوُّء الكائن الإنساني، وحَكَم ببطلان بعده الروحاني والغيبي.

زر الذهاب إلى الأعلى